{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة: 60/ 1- 3].يا أيها المصدّقون بالله تعالى ورسوله، لا تتخذوا عدوي وعدوّكم، وهم هنا كفار قريش، أنصارا وأعوانا وأصدقاء لكم، تنقلون إليهم أخبار نبيكم والمؤمنين، بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وهذا نهي صريح عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.وسبب النّهي: أنهم كفروا بالله ورسوله، وبما جاءكم من الحق وهو القرآن وهداية اللّه، وأخرجوا الرسول والمؤمنين من مكة، من أجل إيمانهم بالله تعالى، وعبادتهم إياه، وذلك للدواعي الآتية المتعلقة بكم:- لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل اللّه وطلب مرضاته.- وتنقلون إليهم الأخبار، وتسرّون إليهم بمودّتكم لهم، وأنا اللّه العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، وبكل ما تخفون وما تعلنون.- ومن يوال الأعداء منكم، فقد انحرف وأخطأ طريق الحق والصواب، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي.وكذلك لأسباب ثلاثة منهم تمنع موالاتهم، وتدلّ على عداوتهم وحقدهم وكراهيتهم:- إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء، ويكونوا حربا عليكم.- ويمدّوا إليكم أيديهم بالضرب والأذى والقتل وغير ذلك من صنوف الاعتداء، وينالوكم بألسنتهم وكلماتهم سبّا وقذفا وشتما وبكل إساءة.- ويتمنّوا ارتدادكم وكفركم بربّكم ورجوعكم إلى الكفر، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء الذين يبتدءونكم بالعداوة والسوء؟! ورابطة الدين والإيمان أنفع لكم من رابطة القرابة والموالاة، فلن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم، حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب ابن أبي بلتعة التي هي سبب نزول هذه الآيات، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم اللّه به من معاداة الكفار، وترك موالاتهم، وتوثيق صلات الإيمان وأخوة الدين، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 49/ 10]. ففي الآخرة يفرّق اللّه بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، واللّه مطّلع على أعمالكم، ومبصر بها، ومجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.والقصد من هذه الآية: أن القرابة النّسبية لا تنفع شيئا عند اللّه تعالى، إن أراد اللّه بكم سوءا، ولن تفيدكم القرابة إذا أرضيتموها بما يسخط اللّه، ومن وافق أهله على الكفر، فقد خاب وخسر وضلّ عمله، ولو كان قريبا لنبي أو منسوبا لآل البيت الطاهرين، لقوله تعالى في الأبوين: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 31/ 15]. هذا في الدنيا.وأما في الآخرة فيقول اللّه تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 23/ 101]. ويقول سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزّخرف: 43/ 67].ألا إن المودّة لا تنفع يوم القيامة إن لم تكن فيما يرضي اللّه، حبّا ومعاداة، لانفصال كل اتّصال يومئذ، واعتماد كل إنسان على ما قدّم لنفسه.إبراهيم الخليل أسوة حسنة:الأنبياء الكرام كلهم قدوة للناس، ولا سيما إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليهم السّلام، وذلك في كل ما أمرهم اللّه تعالى به، ومنه التّبرؤ من الكفار ومعاداتهم، ولو كانوا إخوة أو آباء أو غيرهم، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة ومحبة وثقة، ولكن اللّه تعالى استثنى من التّأسي بأقوال إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام استغفاره لأبيه، الذي كان عن موعدة وعده بها قبل أن يعلم أنه عدوّ لله، ففي هذا لا يستغفر أحد لأبيه إذا كان كافرا، ولا تأسّي بما حدث، كما تصرّح هذه الآيات الكريمة: